
بقلم: حنان حسن
في الخامسة والعشرين من عمره، وبين جنبات محافظة القليوبية، بزغ شغف إسلام مصطفى حمودة، خريج كلية الهندسة – قسم الميكاترونيكس، ليُحلّق بعيدًا عن الأرقام والمعادلات نحو عوالم أرحب من الكلمة والفكرة والتعبير.
هواياته لم تكن عابرة، بل كانت نوافذ واسعة على الذات والعالم: القراءة والكتابة، الأداء الصوتي، والتمثيل. ولكن لحظة التحول الحقيقية بدأت حين وقع بين يديه كتاب مترجم بعنوان “كيف يعمل الخيال” للكاتب البريطاني جيمس وود، فكان ذلك أشبه ببوابة عبور نحو شغف لا ينتهي.
من هناك، انطلقت رحلته في قراءة الكتب الفلسفية والأدبية والعلمية، وانجذب إلى عوالم نيتشه ودوستويفسكي وتشيخوف، محاولًا أن يُسقط فلسفتهم على الواقع، ويصوغ من تأملاته منظورًا جديدًا للحياة، بعيدًا عن الرتابة، أقرب إلى العمق والتساؤل. لم يكتفِ بالقراءة، بل بدأ في التعبير عن أفكاره كتابةً، فصاغ روايات لم ترَ النور بعد، وشارك اقتباساته ونصوصه المقفّاة، في محاولة مستمرة للموازنة بين الواقع والخيال، والانتصار للمعنى في زمن العابر والعشوائي.
كلما توغلت في دروب العلم، اكتشفت أنه ليس بعيدًا عنّا كما نظن، بل هو مرآة تعكس الإنسان والكون في آنٍ معًا. القوانين التي تحكم الجزيئات والطبيعة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تُسيّر قلوبنا وعلاقاتنا. ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك، قانون الأقطاب المغناطيسية: “الأقطاب المتشابهة تتنافر، والمختلفة تتجاذب”. إنّه ليس مجرد قانون فيزيائي، بل تجسيد دقيق لعلاقات البشر.
تأملت طويلًا في هذا المفهوم، فوجدت أنه كلما دارت بنا الحياة، انجذبنا غالبًا إلى من يختلف عنا في الطباع والرؤى. كأنّ في هذا الاختلاف سرًا غامضًا يشدّنا، ويجعلنا نتماهى مع النقيض، ونسعى لفهمه واحتوائه. والتجاذب، كما في الفيزياء، لا يتوقف عند حدود بعيدة؛ بل يشتدّ شيئًا فشيئًا، حتى يصل إلى حدّ الالتصاق، حيث يصبح الفَصل مؤلمًا، وكأنّه اقتلاع لجزء من الذات.
من هنا، كانت الفلسفة طريقي لفهم هذا التعقيد الإنساني، فهي لم تُعطني أدوات لفهم الآخرين فحسب، بل منحتني منظورًا جديدًا لاحترام الاختلاف، وتقدير المشاعر مهما بدت بسيطة أو عابرة. ففي عالم يميل إلى التنميط والتصنيف، تعلّمت من الفلسفة أن كل عاطفة، مهما صغرت، تحمل عمقًا لا يُستهان به.
ولا أنسى كيف فتحت لي بعض الكتب نوافذ لفهم نفسي والآخرين، منها كتاب “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”، الذي أعاد صياغة نظرتي للفروق بين الرجل والمرأة، لا كتناقضات، بل كعوالم مختلفة تستحق الفهم لا المواجهة. ذلك الكتاب كان بمثابة مصباح أنار زوايا خفيّة من العلاقات، وعلّمني أن الاختلاف ليس تهديدًا، بل فرصة للنمو والتكامل.
هكذا، تتداخل الفيزياء بالفلسفة، ويتقاطع العلم مع المشاعر، لنفهم أن الإنسان، في جوهره، ليس كائنًا معزولًا عن القوانين الكونية، بل هو جزء منها… يمشي على الأرض، وقلبه يخضع لنفس سنن الجذب والتنافر.
أجدُ نفسي ميّالًا إلى الوجدانية، إذ تغلب العاطفة على قلمي في كلّ ما أكتبه. فأنا إمّا أُعبّر عن ذاتي، أو أستعير أحاسيس غيري لأصوغها كلمات، ولكن لا يحدث ذلك إلا حين ألامس في داخلي ما شعروا به أو مرّوا به من تجارب. إنّ الكتابة بالنسبة لي ليست فعلًا عقلانيًّا مجرّدًا، بل هي نبض شعور يُترجم إلى حروف، ولا أستطيع الكتابة عن الآخر إلا إذا سكنتني حالته وشعرت بها كأنها لي.
لا يمكن للكلام فقط أن يصف، فحين نكتب لأحدهم صباح الخير ونرسلها في رسالة، سيقرأها حسب ما يقوده داخله لفهمها، أما أذا قلتها بنبرة صوتي وحسب اختلافها إذا كانت خافتة أم عالية أم غاضبة فقد تُعطي تأثيرًا آخر لذلك هناك بعض الأحيان لا تكفي الكتابات فقط.
يُعدُّ انتقاء الكلمات من أصعب المهام في كل ما نمارسه من قول أو كتابة؛ فالتعبير ليس مجرد نقلٍ لما نشعر به، بل هو فنٌّ يحتاج إلى دقّة ووعي. فكم منّا يستطيع الإحساس بعمق، لكن القليل فقط من يجيد ترجمة ذلك الإحساس إلى كلمات تُلامس القلوب. فلكل معنى صيَغٌ متعدّدة، غير أن بعضها وحده هو القادر على أن يلامس أوتارًا خفية في داخلنا، كأنّه كُتب ليُعبّر عنّا تمامًا دون زيادة أو نقصان.
راودني هذا الإحساس في مراتٍ عدة، حين اجتاحتني مشاعر متضاربة وقوية إلى حدٍ أربكني، فلم أجد حينها كلماتٍ تعبّر عنها كما شعرت بها، ولا حتى ما يقترب من معناها. كان ذلك في بداية حياتي الجامعية، حين كانت الأحاسيس متسارعة والتجارب جديدة، ثم تكرر هذا الشعور في مواقف مختلفة على امتداد سنوات لاحقة، حيث تظل بعض المشاعر عصية على الوصف، مهما أوتي المرء من بلاغة.
أكتب لأفهم، فالكلمات حين تُسكب على الورق تمنحني وضوحًا لا أجده في صمت أفكاري. كثيرًا ما يُرتب الكلام في سطوري بطريقة لا تشبه ما كنت أنوي قوله، لكنه، وبشكل ما، يعبر بصدق عما ينبغي أن أراه وأفهمه. الكتابة هنا لا تكون مجرد وسيلة للتعبير، بل أداة لاكتشاف الذات وفهم العالم من حولي.
لا تكتب إرضاءً للآخرين، ولا تسعَ لجذب جمهورٍ مُعجب أو تحقيق غايةٍ ما، بل اكتب لأنك تحمل في داخلك لوحة تستحق أن تُرسم، دع كلماتك تنساب بريشتك أنت، ليُبصرها من يمتلك عينًا ترى الجمال في الصدق، ويشعر بها من يبحث عن أثرٍ يُشبهه في الحروف.