إسلاميات

“المقت في القرآن الكريم: المفهوم والدوافع وأوقات النزول

نيوز بالعربي

بقلم: الشيخ حسين التميمي 

المقت في القرآن الكريم هو من أشدّ مراتب الغضب والكراهية التي يُنزلها الله سبحانه على من تلبّس بأعمال عظيمة في قبحها، تفوق حدود المعصية الظاهرة، وتلامس جوهر النفاق والكفر والجحود. فليس المقت مجرّد كراهية عادية، بل هو إعلان غضبٍ إلهيّ شديد يدل على أن الفعل أو القول قد بلغ في انحرافه حدًا يستوجب أن يكون صاحبه ممقوتًا عند الله وعند الخلق.

وقد ورد هذا المفهوم في عدة مواضع من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3].

فهنا يبين الله أن القول دون فعل – أي التظاهر بالصلاح أو الجهاد أو النية الطيبة دون التزام عملي – ليس فقط خطأً، بل هو عمل يثير مقت الله عزّ وجل، ويجعله كبيرًا عنده، مما يدل على فظاعته في ميزان الأخلاق الإلهية وفي آية أخرى يفضح الله حال الكافرين بعد فوات الأوان، حين يندمون ويكرهون أنفسهم، فيقال لهم:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [غافر: 10].

وفي هذه اللحظة، يُعلِن الله أن مقته لهم بدأ قبل مقتهم لأنفسهم، وهو أشد وأسبق، لأن مقت الله مبنيّ على علمٍ وعدلٍ لا على ندمٍ متأخر.

والمقت الإلهي لا يكون إلا لذنوب عظيمة، ومن أهم أسبابه:

أولًا: الكذب والنفاق العملي: كما في آية سورة الصف، حيث يتحدث الإنسان عن أشياء لا يلتزم بها، ويدّعي الصلاح وهو بعيد عنه، وهذا النوع من التناقض بين القول والفعل يؤدي إلى مقتٍ شديد عند الله.

ثانيًا: الكفر بعد الإيمان: وهو من أعظم الذنوب التي تجلب مقت الله، لأن صاحبها يكون قد عرف الحق ثم تركه عن عمدٍ واستكبار، وقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الكفر في قوله تعالى:

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُوا۟ رِضْوَٰنَهُۥ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ﴾ [محمد: 28].

ثالثًا: الاستكبار على النصح ورفض الحق، فحين يُقال للظالم أو المنافق “اتق الله” فيأخذه العناد والعزة بالإثم، يكون قد دخل دائرة المقت، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ﴾ [البقرة: 206].

رابعًا: الفساد في الأرض بعد الإصلاح: لأن هذا يُعد انقلابًا على النعمة واعتداءً على قوانين الله، وهو مما يُوجب المقت والبغض الإلهي، كما أشارت آيات كثيرة إلى بغض الله للمفسدين.

وأما عن متى ينزل المقت الإلهي: فذلك يكون في مراحل متفرقة، منها ما يظهر في الدنيا، ومنها ما يتجلّى في الآخرة.

وفي الدنيا، ينزل المقت على العبد من خلال ذهاب بركة عمره، وانكشاف حقيقته، وسقوطه من أعين الناس، وضيق صدره، وحرمانه من التوفيق الإلهي، وقد يشعر الإنسان بهذه الأحوال دون أن يدرك أن سببها هو مقت الله لأعماله المتناقضة مع ما يدّعيه.

وفي الآخرة، يظهر المقت الإلهي بأشد صوره، حين يُعلن الكافر عن ندمه، ويكره نفسه، لكنه يُفاجأ بأن مقت الله له أكبر من كل شعورٍ يحمله، فيكون ذلك أذلّ لحاله، وأشدّ لعقوبته، كما في سورة غافر وهو مقتٌ لا يزول، بل يرافقه في الخلود الأبدي في العذاب.

وقد بيّنت تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) هذا المفهوم بوضوح، عن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله:

واعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتا ، فاتقوا الله.. ” الكافي:8/8، فمن ضيّع معيار الصدق، وسلك طريق التزوير والتملّق والكذب، فإنه من أهل المقت، لأن هذا السلوك يعبّر عن نفاق داخلي.

وإنّ المقت في القرآن الكريم دعوةٌ صريحة للمراجعة الذاتية، وللابتعاد عن كل ما يوجب بغض الله. فالمؤمن الصادق هو من يزن قوله بفعله، ويحذر من النفاق الخفي، ويتعفف عن ادّعاء ما لا يملك، فالمقت ليس مجرّد غضب، بل هو مؤشر على أن القلب قد انحرف، وأن السلوك قد بات مرفوضًا من الله عزّ وجل، وهي حالة خطرة تُنذر بعواقب في الدنيا والآخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى