تقاريرسياسة

الدروز: عقيدة منغلقة تواجه شرق أوسط ممزق

اخبار نيوز بالعربى

كتبت: إسراء عبدالله
المصدر: نيويورك تايمز

أدّت أعمال العنف الأخيرة في محافظة السويداء جنوب سوريا إلى مقتل المئات، وزعزعة القيادة الجديدة الهشة للبلاد، وجذب إسرائيل المجاورة إلى قلب الأزمة.

وتقف الطائفة الدرزية في قلب هذه الأزمة، وهي أقلية دينية غامضة لطالما شقّت طريقها بصعوبة عبر سوريا ولبنان وإسرائيل، محافظةً على تقاليدها الصارمة، ومتأقلمةً في الوقت نفسه مع القوى الإقليمية.

لكن هذا التوازن، الذي كان يومًا مفتاحًا لبقائها، أصبح الآن مهددًا، في ظل الاضطرابات في سوريا وتزايد الحزم الإسرائيلي إقليميًا، مما يجعل الطائفة عرضة لمخاطر جديدة.

نشأت الديانة الدرزية، المنغلقة على الغرباء والتي كثيرًا ما أسيء فهمها، في القرن الحادي عشر كفرع من الإسماعيلية، إحدى فرق الشيعة، ورغم امتلاك الدروز جذورًا تاريخية مشتركة مع الإسلام، فإنهم لا يعتبرون أنفسهم مسلمين، فديانتهم التوحيدية تمزج بين الفلسفة اليونانية والهندوسية والأفلاطونية المحدثة، ولا يطّلع على نصوصها المقدسة إلا قلة مختارة، وقد اثار هذا الغموض الديني الفضول والريبة معًا، مما دفع بعض علماء الدين المسلمين عبر القرون إلى وصفهم بالزنادقة.

ويعيش أكثر من نصف مليون درزي – من أصل مليون تقريبًا في العالم – في سوريا، أي حوالي ثلاثة بالمئة من سكانها، فيما ينتشر الباقون في لبنان وإسرائيل ومرتفعات الجولان، التي احتلتها إسرائيل من سوريا في ستينيات القرن الماضي.

ويعلن الدروز عادةً ولاءهم للدولة التي يعيشون فيها، وهو مبدأ راسخ في عقيدتهم، قائم على البراغماتية والبقاء، أكثر من المواجهة السياسية، ورغم أن هذا الموقف قاد الدروز في سوريا ولبنان وإسرائيل إلى مسارات سياسية متباينة، إلا أن روابطهم العابرة للحدود لا تزال قوية – من قرابة، وذاكرة مشتركة، وشعور متبادل بالحماية.

يقول فادي عزام، الشاعر والروائي السوري الدرزي من السويداء، الذي فر خلال الحرب الأهلية: “الشيء الغريب أن هذه الطائفة نجت حتى الآن في واحدة من أكثر مناطق العالم عنفًا، لكن لدينا فلسفة، وأعتقد أن هذه الفلسفة هي التي أنقذتنا.”

تجنب الدروز التمرد العلني تحت حكم بشار الأسد، ورفضوا في الوقت ذاته الاندماج الكامل مع النظام، وخدم كثيرون منهم في الجيش السوري، لكن الميليشيات المحلية احتفظت بقدر من الاستقلالية، وكانت تتولى الأمن في مناطقها، مثل السويداء، معقل الطائفة؟

لكن هذا التوازن الهش بدأ ينهار في الأشهر الأخيرة، مع سعي الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى ضبط شبكة الجماعات المسلحة التي خلّفتها الحرب، وبلغ التوتر ذروته هذا الأسبوع عندما اندلعت مواجهات دموية في السويداء بين مقاتلين دروز وعشائر بدوية، وتدخلت القوات الحكومية لاحتواء العنف، لكنها اصطدمت بالمسلحين الدروز الذين لا يثقون في القيادة الجديدة لسوريا.

وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 500 شخص قتلوا جراء هذه الاضطرابات.

كما دخلت إسرائيل على خط الأزمة، متعهدة بحماية الدروز، رغم اعتراض العديد من الدروز السوريين على هذا التدخل.

وأثار العنف احتجاجات داخلية في صفوف المجتمع الدرزي في إسرائيل، الذي رغم قلة عدده يتمتع بنفوذ سياسي وعسكري، وخرج المحتجون إلى الشوارع، وأغلقوا طرقًا، وفي بعض الحالات اخترقوا الحدود باتجاه سوريا.

وردّ الجيش الإسرائيلي بتنفيذ ضربات جوية طالت قلب العاصمة دمشق، لكن كثيرًا من الدروز السوريين يرون أن هذه الهجمات فاقمت من عزلتهم عن الحكومة السورية الوليدة.

قال رضا منصور، المؤرخ الدرزي الإسرائيلي وأستاذ التاريخ في جامعة رايخمان في تل أبيب: “الدروز اليوم عالقون بين المطرقة والسندان.”

وفي الوقت الراهن، يبدو أن وقف إطلاق النار الهش قائم، لكنّ الصراع أعاد فتح جراح أعمق وأثار ذكريات اضطهاد تعود لقرون، بدءًا من العهد العثماني، مرورًا بالأنظمة القومية العربية في القرن العشرين.

ففي خمسينيات القرن الماضي، شنّ الرئيس السوري أديب الشيشكلي حملة دموية ضد الدروز أسفرت عن مئات القتلى وتدمير بلداتهم، وقد خلّف هذا الحدث صدمةً كبيرة شكّلت عقيدة الاعتماد على الذات التي لا تزال تُلهم النزعة القتالية لدى الدروز في سوريا.

قال فادي عزام: “لو صنّفنا المجتمعات في الشرق الأوسط، لوجدنا المزارعين والرعاة، والتجار، والمقاتلين – والدروز مقاتلون. هذه إحدى جوانب الغموض الذي يحيط بهم”.

وبعيدًا عن سوريا، استطاع الدروز أن يشقوا لأنفسهم أدوارًا في دول أخرى: فمنهم من رسّخ نفوذه، ومنهم من قدّم الولاء المطلق، ففي لبنان، حيث يشكّلون نحو 5% من السكان، لعبت العائلات الدرزية النافذة دورًا محوريًا في صنع التوازنات السياسية، من خلال تحالفات مع فصائل مسيحية وسنية وشيعية، في فترات الحرب والسلم.

أما في إسرائيل وهضبة الجولان المحتلة، حيث يقدّر عدد الدروز بنحو 145 ألف شخص فتحتل الطائفة مكانة فريدة، فبعكس الأقليات العربية الأخرى، يُجند الدروز في الجيش الإسرائيلي، ويخدم العديد منهم في مناصب عسكرية وسياسية رفيعة.

ومع ذلك، أعرب المواطنون الدروز عن خيبة أملهم من التمييز ضدهم، لا سيما بعد قانون القومية لعام 2018، الذي قوض مكانتهم كمواطنين كاملي الحقوق.

قال منصور، السفير الإسرائيلي السابق: “القاعدة الدرزية هي: أينما كنت، عليك أن تكون أكثر المواطنين وطنيةً لتتمكن من البقاء”.

وقد خدم هذا النهج الدروز لقرون، لكن في السويداء، برزت حدود هذه القاعدة بوضوح.

وخرج العديد من السكان من منازلهم بعد أيام من الاحتماء بداخلها، ليجدوا مشاهد دمار شاملة: واجهات محلات محروقة، شوارع مليئة بالأنقاض، ودبابات لا تزال تتصاعد منها الأدخنة، وعلى بُعد مئات الأميال، كان فادي عزام يتلقى خبر مقتل عمته في أعمال العنف، ويحاول استيعاب ما قد يحمله المستقبل، وقال عزام: “لست متفائلًا، لكنني أيضًا لست متشائمًا. مازال اليوم في بدايته، ومشاعري كذلك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى