تقاريرسياسة

كيف ستعمل لعبة التجسس حين لا يبقى مكان للاختباء؟

اخبار نيوز بالعربى

كتبت: إسراء عبدالله
النصدر: مقال لديفيد إغناتيوس في واشنطن بوست

في عام 2018، كان آرون براون يعمل ضابطًا ميدانيًا في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) عندما كتب تدوينة على مدونة داخلية للوكالة، حذر فيها من تقنية أطلق عليها اسم “التعرف على المشية”. قال إن خوارزميات الكمبيوتر ستصبح قادرة على التعرف على الأشخاص ليس فقط من خلال وجوههم أو بصماتهم أو حمضهم النووي، بل من خلال الطريقة الفريدة التي يسيرون بها.

سخر بعض زملائه المدربين على فنون التخفي التقليدية من تحذيره، ووصفه أحدهم بأنه مجرد “فزع تقني”. لكن ما حذر منه براون تحقق بدقة مقلقة. ففي مايو الماضي، أظهرت دراسة أن نموذجًا يُدعى FarSight استطاع التعرف على الأشخاص بدقة بلغت 83% من مسافة تصل إلى 1000 متر، وذلك باستخدام أنماط المشية والجسم والوجه. حتى عندما حُجبت ملامح الوجه، بقيت الدقة 65%. قال براون: “من الصعب المبالغة في وصف مدى قوة ذلك”.

قصة براون تُجسد تحولًا عميقًا يجري في عالم الاستخبارات: لم يعد هناك مكان للاختباء. ملايين الكاميرات حول العالم تسجل كل حركة وتخزنها إلى الأبد. كل تصرف يترك أثرًا رقميًا يمكن تتبعه وتحليله وربطه بغيره. هاتفك وحساباتك على وسائل التواصل تخبر العالم من تكون وأين أنت.

بل إن محاولات التخفي قد تأتي بنتائج عكسية. فقد كشف مصدر استخباراتي أن وكالة الاستخبارات المركزية زوّدت شبكة تجسس في دولة شرق أوسطية منذ أكثر من عقد بهواتف تُستخدم فقط عند إرسال رسائل عملياتية. غير أن جهاز الأمن المحلي في تلك الدولة ابتكر خوارزمية لرصد “الهواتف غير النشطة” فتم اكتشاف الشبكة بالكامل بسبب قلة استخدامها لتلك الهواتف.

قال براون: “كلما حاولت أن تخفي نفسك، زاد بروزك.” لم يُعلق على تلك الحادثة أو غيرها من التفاصيل العملياتية، لكنه أشار إلى درس واضح: غياب الهاتف المحمول أو الملف الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي في يومنا هذا قد يشير إلى أنك جاسوس أو مجرم تحاول البقاء خارج الرادار.

براون، وهو ضابط سابق في قوات الرينجرز ومكافحة الإرهاب في الـCIA، هو أحد القلائل من الجواسيس السابقين الذين يسعون لإعادة ابتكار الاستخبارات الأميركية لتتكيف مع ما يُسمى “المراقبة التقنية الشاملة” (UTS). أسس هذا العام شركة جديدة تُدعى Lumbra، تهدف إلى بناء “وكلاء ذكاء اصطناعي” قادرين على البحث في البيانات وتحليلها واتخاذ قرارات مبنية على النوايا المعادية المحتملة.

Lumbra هي واحدة من حوالي اثنتي عشرة شركة ناشئة تعمل على استكشاف مستقبل الاستخبارات. بعضها يستخدم البيانات للكشف عن الباحثين المرتبطين بالاستخبارات الصينية. بعضها يستخدم تحليل البيانات الضخمة كما تفعل شركات الإعلان، فيما تُطور أخرى تقنيات تخفي هوية الاتصالات مثل نظام “Obscura” الذي يُخفي إشارات الهواتف المحمولة.

معظم مؤسسي هذه الشركات هم من قدامى ضباط الـCIA أو الجيش. يخشون من أن أجهزة الاستخبارات التقليدية لا تتكيف بسرعة كافية. يقول إدوارد بوغان، ضابط سابق في الوكالة: “تكنولوجيًا، تشعر بأن الوكالة كأنها تابوت، بينما العالم من حولها يتحرك”.

تعترف إدارة ترامب بهذه الثورة الاستخباراتية – على الأقل مبدئيًا. فقد قال مدير CIA جون راتكليف أثناء جلسات تثبيته إنه يريد تكثيف العمليات السرية “للذهاب حيث لا يجرؤ الآخرون وفعل ما لا يمكن لغيرهم فعله”. لكن إذا لم تُعد الوكالة ابتكار أدواتها، فستكون هذه الطموحات مجرد كلام فارغ.

وقال متحدث باسم CIA: “البيئة الرقمية اليوم تفتح بقدر ما تغلق من فرص. نحن وكالة قابلة للتكيف، ولدينا من الإبداع ما يكفي لتطوير وسائل فعالة للتعامل مع بيئات معقدة. بل إننا نستغل هذه التقنيات ذاتها لتجنيد الجواسيس وسرقة المعلومات”.

براون يرى أملاً في عمل الجيل الأصغر في الـCIA. يقول: “بعض أذكى العقول في الوكالة يعملون ليلًا ونهارًا على هذه التحديات، ويبتكرون حلولًا فريدة”.

لكن التحدي التكنولوجي للـCIA ليس استثناءً، بل جزء من تحول شامل في الأمن والدفاع. الطائرات المسيّرة والصواريخ الذكية قلبت موازين المعارك، كما في أوكرانيا وإسرائيل. والجواسيس كذلك لم يعد بوسعهم الاعتماد على الأساليب القديمة دون أن يعرضوا حياتهم للخطر.

لفهم جذور الحرفة القديمة، يستحضر المقال ذكريات أنطونيو مينديز، رئيس وحدة التنكر في الـCIA خلال الثمانينيات، الذي ابتكر أقنعة متقنة تجعل الجاسوس يبدو من جنس أو عرق أو طول مختلف. هذه الحيل ألهمت مسلسلات مثل “المهمة المستحيلة”.

لكن الوكالة لم تكن فقط خبيرة في التنكر، بل رائدة تكنولوجية – طورت طائرات تجسس وأقمار صناعية وأنظمة بطاريات. لكنها فقدت ريادتها حين قاد وادي السيليكون ثورة الابتكار، بينما تأخرت المختبرات الحكومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى