24 ساعة

صرخة مكتومة: عندما يصبح التنمر نهاية الحكاية

عندما يصبح التنمر نهاية الحكاية

بقلم : دينا حسين

في كل عام، تخفت أصوات وتذبل أرواح يافعة تحت وطأة ظل قاسٍ يُعرف بالتنمر. إنه ليس مجرد مزاح عابر أو خلاف طفولي، بل هو سلوك عدواني متكرر ومتعم، يحيل حياة الضحايا إلى كابوس مرعب.
يبدأ بكلمة جارحة أو نظرة ساخرة، وقد يتطور ليصبح اعتداءً جسديًا أو حصارًا إلكترونيًا، ليترك في النهاية ندوبًا عميقة في الروح يصعب محوها.

أسباب التنمر: جذور الظاهرة المؤلمة:
تتشابك خيوط عديدة لتشكل بيئة خصبة لنمو التنمر، من بينها:
تصدعات في جدار الأسرة: الإهمال العاطفي، الخلافات المستمرة بين الوالدين، وغياب القدوة الحسنة قد يدفع الطفل إلى البحث عن قوة زائفة وسيطرة وهمية على الآخرين.

عواصف داخلية: الشعور بالضعف والعجز، الغيرة المستعرة، وحتى اضطرابات الشخصية ونقص الثقة بالنفس، قد تدفع البعض لممارسة التنمر كآلية دفاع أو تعويض.

فجوات مجتمعية: التفكك الأسري، انشغال الأهل عن دورهم التربوي الأساسي، واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية قد يخلق بيئة من الإحباط والتنافس السلبي.

غياب البوصلة الأخلاقية: ضعف الوازع الديني والأخلاقي، والتخلي عن القيم النبيلة، يفتح الباب أمام سلوكيات مؤذية كالاستهزاء بالآخرين.

تقصير في ساحات التربية: عندما يغيب الدور الفعال للمدرسة في غرس القيم الإيجابية وتقويم السلوكيات الخاطئة، يصبح الطلاب عرضة لثقافة التنمر.

عدوى السلوك: الانغماس في مشاهدة أو ممارسة السلوكيات العدوانية قد يحولها إلى عادة يصعب التخلي عنها.

أوجه متعددة لجريمة التنمر:

يتلون التنمر بألوان قبيحة متعددة، تاركًا خلفه ضحايا تتجرع مرارة الألم:

قبضة العنف الجسدي: كالدفع بعنف، والضرب المبرح، والركل المهين.

سهام الكلمات الجارحة: استخدام الشتائم والعبارات المهينة للانتقاص من قدر الآخرين وتحطيم ثقتهم بأنفسهم.

خيوط العزلة العاطفية: التلاعب بالعلاقات الاجتماعية وعزل الضحية وحرمانه من الدعم والصداقة.

سموم العالم الرقمي (التنمر الإلكتروني): المضايقة والتهديد والإهانة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا يجرؤ المتنمر على قولها وجهًا لوجه.

انتهاك الحرمات (التنمر الجنسي): استخدام ألفاظ جنسية مؤذية وجارحة.

تهميش الروح (التنمر الاجتماعي): ترك الشخص وحيدًا ونبذه عمدًا أمام الآخرين.

همسات مؤذية ونظرات جارحة (التنمر النفسي): استخدام الإيماءات والنظرات الساخرة لإزعاج الضحية وزرع القلق في نفسه.

معاناة في ساحات العلم (التنمر المدرسي): أفعال سلبية متعمدة من قبل الطلاب ضد زملائهم، تحول بيئة التعلم إلى ساحة للخوف.

جراح الأقارب (التنمر الأسري): قد يأتي الألم ممن يفترض بهم أن يكونوا مصدر الأمان، سواء من الوالدين، الأشقاء، أو حتى بين الزوجين.

سم في بيئة العمل (التنمر في العمل): ممارسات مؤذية بين الزملاء أو من الرؤساء، تخلق بيئة سامة تعيق الإنتاجية وتدمر الصحة النفسية.

التنمر: حين يصبح الألم نهاية الحكاية:
للتنمر تأثير مدمر يتجاوز الكلمات والجروح الظاهرية، فقد يتحول إلى وحش يلتهم أرواح ضحاياه.
نتذكر هنا قصة المغنية الكورية الشابة سولي، التي وجدت نفسها أسيرة للاكتئاب القاتل بسبب سيل التعليقات الحاقدة التي استهدفتها عبر الإنترنت، لتختار في النهاية إنهاء حياتها.
وفي مجتمعنا المصري، اهتزت القلوب لخبر انتحار الطفلة ريناد، التي لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، بعد أن حولت زميلاتها في المدرسة أيامها إلى جحيم من السخرية والمضايقات.
هاتان القصتان المأساويتان، وغيرهما الكثير مما لا نعلمه، تشير بوضوح إلى أن التنمر ليس مجرد “مزحة بريئة”، بل هو عنف نفسي وجسدي حقيقي يمكن أن يدمر حياة الأفراد، ويتركهم يعانون من الوحدة والاكتئاب والقلق وتدني احترام الذات، وقد يقودهم في النهاية إلى طريق مظلم لا عودة منه.

نظرة الإسلام للتنمر: تحريم الإيذاء والسخرية:

حذر الإسلام أيما تحذير من إيذاء الآخرين وتجريحهم بأي وسيلة، سواء بالقول أو الفعل أو السخرية، وهو جوهر ما نطلق عليه اليوم “التنمر”. وقد أكد القرآن الكريم في آيات بينات على حرمة هذا السلوك المشين، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.
كما نهى سبحانه وتعالى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أثقل شيءٍ في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء»، والتنمر بلا شك من أقبح الفواحش التي يرتكبها الإنسان بحق أخيه.

طريق النجاة: كيف نواجه وحش التنمر؟ 

مواجهة التنمر تتطلب تضافر جهود الجميع، وبناء حصن منيع يحمي أطفالنا ومجتمعاتنا:

احتضان الضحايا: دعم الأشخاص الذين يتعرضون للتنمر والوقوف بجانبهم بحب وتفهم، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التعافي من آثار هذه التجربة المؤلمة.

بلسم الروح: توفير العلاج النفسي المتخصص للضحايا لمساعدتهم على تجاوز الصدمات والآثار النفسية السلبية.

جيل واعٍ: تربية الأطفال على القيم النبيلة والاحترام المتبادل ونبذ العنف بكل أشكاله، وغرس الوعي بأهمية التعاطف والتسامح.

دور فعال للمؤسسات التعليمية: تفعيل دور المدرسة في غرس السلوكيات الإيجابية وتقويم السلوكيات الخاطئة من خلال برامج توعية وأنشطة تفاعلية.

قدوة حسنة: يجب على الأهل والمربين أن يكونوا نماذج إيجابية في سلوكهم وتفاعلاتهم مع الآخرين.

تواصل فعال: فتح قنوات تواصل آمنة بين الأهل والأبناء وبين الطلاب والمعلمين، لتشجيع الإبلاغ عن حالات التنمر وتقديم الدعم اللازم.

فلنجعل من مجتمعاتنا واحات آمنة تنبت فيها بذور الاحترام والمحبة، ولنقف صفًا واحدًا ضد هذا الظل القاسي الذي يهدد مستقبل أجيالنا. صرخة مكتومة لطفل يتعرض للتنمر يجب أن تهز ضمائرنا وتدفعنا للعمل بجد لبناء عالم أكثر أمانًا ورحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى