
كتب مصطفى نصار
إبادة جماعية من نوع آخر :إبادات متفرقة لهدف واحد .
يوم الأربعاء ، حوصر مستشفي العودة في شمال قطاع غزة ، مع تكثيف ضرب محيطه بالقنابل و الصواريخ و الدبابات ،
ممهدين الطريق لتكرار حالك مستشفى الشفاء الذي حرق و دمر بالكامل بعد نفس السيناريو البشع منذ أبريل /نسيان الماضي ، تاليًا إياه نفس الترتيب في مستشفى كمال عدوان ،
و التي يكمن ورائها نوع فريد من الإبادة الجماعية تعرف باسم الإبادة الحميمية ذات وقع نادر و حدوث أكثر ندرة في التاريخ الإنساني عامة ، و الحربي خاصة .
و تقع ضمن أنواع سياسات الإبادة التي أشار لها البروفسور ادوارد هيرمان في كتابيه سياسات الإبادة و تصنيع الموافقة معتبرًا إياها نوع وظيفي للتركيع و الإذلال المعتمد ،
مما يترتب عليه محو أفكار أساسية ديموغرافيًا و سياسيًا . و لإيضاح الإبادة الحميمية ،
فهي تعني بكل اختصار اختراق غائر للبعد القريب من الإنسان على مستوى العائلة أو الأصدقاء إما بقتل أحد أفرادها أو قتلهم جميعًا بدافع التفشي و الانتقام .
ربما اختلطت المفاهيم هنا بين ما يعتبر إبادة جماعية و إبادة حميمية ، باعتبار أن كليهما يمحو و يقتل بلا تفرقة ،
لكن الفرق الجوهري بينما في الوظيفة و الأثر ، غير طبعا الدوافع المتراكمة لما بعد حدوث الثانية ،
لإن مثلما يقول المحلل النفسي كارل يونج” الروح تعافر للبقاء عند الأقارب “.
و بتطبيق المقولة السابقة ، من الجدير بالملاحظة تعمد الاحتلال الإسرائيلي قذف المستشفيات و المدارس ،
لعدة أهداف أعمقها يكمن في استبدال فكرة المقاومة بفكرة الرضوخ للمحتل و نسيان التحرير نهائيًا ،
معمقًا إياه باستمرارية القصف و استهداف الممرضين و الأطباء .
بإلاضافة لما سبق ذكره ، فإن تعميق الأزمة الإنسانية و مسلسل النزوح من قتل و تشريد مرير و انتهاءً بالحلقة الأخيرة من هذا المسلسل ألا و هو
تحويل خيم النازحين لأفران غاز حية متنقلة ، لحرق الفلسطينين أحياء ، مثل الشهيد شعبان الدلو و أمه في يوم الأحد ١٣ أكتوبر بشهداء الأقصى .
و تأكيد على اختلافها الجوهري الذي يفرق بين تلك النوعية و الإبادة الجماعية،
تعمل الحميمية على إشعال نيران الحقد و الثار بين الأضلاع حتى لو اختلف مع حماس إلا أن الفقد للعزيز و الحسرة عليه تمحي أي اعتراض و لو كان على المستوى البراجماتي ،
و هذا ما عبر عنه الكاتب اللبيرالي الفلسطيني محمد رأفت حين اعتبر أن موالاة حماس أفضل من موالاة الصهاينة.
تظهر الاستبيانات كذلك تنامي حالة الثأر بين الفلسطينين عامة و الغزيين خاصة
حيث يشير تقرير المركز الفلسطيني للبحوث السياسي استشهاد فرد أو فردين على الأقل من عائلة ما يضاهي من نصف الأسر في القطاع ،
و طرديًا يزيد الدعم و التأييد للمقاومة مع تصاعد العنف و القتل.
مما سبق ، يعكس تلك الإجراءات الإبادية إعادة تشكيل ديموغرافية و سيسولوجية جديدة لدى الفلسطينين مفادها أن هندسة الموت و التهجير لن تجد نفعًا ،
و لعل معسكر جباليا و بيت لاهيا يثبت تلك الرواية الجديدة بثبات أن الإبادة للانتقامية و الوحشية ستقابل بالترحيب و قبول التهجير .
و تعظم إشارة البروفسير نور مصالحة هذه النقطة حيث يشير في كتابه نقل الفلسطينين، أن فكرة التهجير أصبحت مساوية للنكبة أو انتهاء القضية للأبد
و لذلك هناك اتفاق في العقل الجمعي الغزي خاصة على استحالة و استغصاء القبول به ،
بل أن الموت و الفناء صامدًا لهو نصر عزيز و استشهاد مؤزر بعكس العدو الذي طالما ظل مشتتًا طيلة تاريخه لذنبه العظيم و فساده الجسيم .
الانتقام و العنف و الإفساد المخالف للإجماع البشري :رسوخ الإبادة الحميمية في تاريخ الصهيونية بشقيها .
في كتابه المثير للجدل دولة فلسطينية للهنود الحمر ، يطرح الكاتب و أستاذ الإنسانيات بجامعة سطف في وانشطن منير العكش أطروحة غريبة و متأصلة في التاريخ الأمريكي و الحديث عامة
ألا و هي الاستعمار بالانتفام الوحشي عبر الإبادة الحميمة بكافة أشكالها من فصل قسري للولد أو الفتاة عن أبويه ،
و كذلك قتل العائلات مجتمعة أمام أصغر أو أكبر أفرادها حتى يغرس بداخله إحساس الضعف و الخزي ،
و بالتالي يضمن تحييده أو موالاته ، أو على أقل تقدير صمته .
و بالمثل ، امتلا تاريخ الصهاينة بمزيج من الانتقام و العنف و الوحشية ، دافعت بلد مثل انجلترا التي أصدرت وعد بلفور عام ١٩١٧ ،
ليس حبًا في اليهود و إنما رغبة في التخلص منهم و من فسادهم و تنظيمات عصابية مثل شتيرن و الهاجناه التي اتخذت القتل باعتباره نهجًا وحيدًا ،
حتى قتل الكونت باندوتت و رئيس الوزراء البريطاني الأصل صموئيل جونسون من قبل أبراهم شتيرن مع العلم أن جونسون صهيوني النزعة متطرف التوجه
بأن يجب التعجيل بأخذ الأرض لفلسطين ، و تسليمها لليهود لتنفيذ المؤهلات لنزول المخلص .
و عند النظر لأسحق نقطة تاريخية ، من المهم الالتفات لجذرية الانتقام و العنف اليهودي و الصهيوني خاصة منذ مجيء المسيح حتى الآن ،
فهم في العصور الوسطى من حرض على الحملات الصلبية على يد البابا أوربان الثاني ،
الذي مارس الغنوصية و الكابلا فأعلن عن بدء الحملات الصليبة في القدس في عام ١٠٩٩.
و تلك الحملات عادت بقوة في الألفية الجديدة إذ أنها لن تتوقف أبدا عقب ذلك ، منتهية بالحرب على غزة و لبنان بدعوى الحفاظ على الأمن و مستقبل العالم الحر ،
تاركة إشكاليات لا حصر لها فيما يتعلق على الأفل بمعنى الإبادة الحميمية و مضامينها في القانون الدولي حديثُا و حاليًا.
قانون تعطيلي انحيازي للأقوى :غزة أنموذجًا صارخًا.
يدين القانون الدولي ،بوضوح و مكاشفة شديدة ، جميع أنواع الجرائم ضد الإنسانية ،
لكنه يقف في وجه الأقوى ليدعمه و يسانده بمنتهى القوة ، معلنًا بذلك تناقضات و انتهاكات حقيقة و مؤلمة تنم عن امبريالية عميقة و استعمارية متجذرة منذ لحظة نشأته ،
لإن أنشأ في المقام الأول لحماية القوة و كل طرائقها .
و لعل هذا ما جعل الأستاذ الفخري ذا الأصول الأسرائيلية نيف جودون و نيكولاي بيجونوني يتفرغان عامين حتى يؤلفان مجلد قيم ،
مثبتين بذلك غرض القانون الدولي في تكريس ثقافة الهيمنة و السيطرة ،
من اسمه “حق الإنسان في السيطرة ”
حتى أمثلته العديدة التي تروي قصص مريعة في القضية الفلسطينية تحول الإبادة الحميمية لمجرد حدث روتيني مكرر!!
تكرست الإرهاصات الثقافية للقانون الدولي لترسيخ و تثبيت قانون الغابة تكون الحديقة الوحيدة فيها الغرب ،
يشبه الشخص الذي يتكالب عليه العدو فينفرد به فيتركه الشارع وحيدًا ، و يتخلى عنه أقاربه و أصدقائه .
و ما لا يتوقف الحد على غزة ، فنجد الولايات المتحدة كذلك تجنده لحماية الإبادة الجماعية عامة و الحميمية خاصة
لتحقيق مصالح مشتركة أو حماية أبدية لإسرائيل بأكثر من ٣٤٥٠ انتهاك رصده مقال للباحثة مريم شهندي معللة إياها بالدعم غير المشروط و اللا أخلاقي منها .
و تحول القانون الدولي من مجرد أداة غير مباشرة للقمع و الإفساد لورقة إبادية منذ عام أو زمرة من أكاذيب عرتها ركام غزة المتراكم .