اللواء رضا يعقوب يحلل القتل المستهدف الذى تمارسه الصهيونية، ومخالفته للقانون الدولى والإنسانى، ورصد:

أصبحت قضية القتل المستهدف جزءاً من مواضيع القانون الدولى الحديث، حيث رافق إنتشارها التطور التكنولوجى للأسلحة والمعدات العسكرية، وخاصة الطائرات بدون طيار، الى الآن، لا يوجد تعريف محدد أو إطار قانونى للقتل المستهدف فى القانون الدولى، ولا تزال مسألة قانونية هذه العمليات فى منظور القانون الدولى محل نقاش وجدل. أثارت قضية القتل المستهدف للجنرال قاسم سليمانى ثم عملية القتل المستهدف لإسماعيل هنية بإيران موجات من ردود الفعل و النقاش بين العديد من فقهاء القانون من جهة والمسئولين الأمريكيين من جهة أخرى و ذلك حول شرعية قتلهما فى ضوء قواعد القانون الدولى والقانون المحلى الأمريكى، تناقش العلمية بدايةً شرعية القتل المستهدف فى ضوء القانون الدولى والقانون المحلى الأمريكى، ومن ثم تتجه لدراسة الأسس القانونية والنظام القانونى الذى يحكم هذه العمليات ، بينما تسلط الضوء على قضية القتل المستهدف خلال فحص وجهات النظر المختلفة للفقهاء فى هذا الصدد فى ضوء القانون الدولى والقوانين المحلية.
تمتلك الصهيونية سجلاً فى إرتكاب ما يُعرف باسم “عمليات القتل المستهدف” ضد من تعتبرهم أعداء لها، كيف ينظر القانون الدولى ومنظمات حقوقية الى هذه العمليات على ضوء مقتل اسماعيل هنية فى طهران والذي نسب للصهيونية؟
الأربعاء (31 أغسطس/ آب) فى طهران أعلن عن مقتل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، إسماعيل هنية، الذى كان أحد القياديين البارزين فى الحركة التى كانت تتفاوض للتوصل الى وقف لإطلاق النار فى غزة يسفر أيضاَ عن إطلاق سراح الرهائن الصهيونيين الذين ما زالت حماس تحتجزهم.
وقال خبراء القانون فى اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن مقتل هنية يمكن أن يندرج فى إطار ما يُعرف بـ “عمليات القتل المستهدف” وأعطى الخبراء تعريفاً لهذه العمليات بأنها “الإستخدام المتعمد والمخطط له مسبقاً من قبل دولة أو جماعة مسلحة ضد فرد معين خارج نطاق الإحتجاز المادى”
فى كتابه “القتل المستهدف فى القانون الدولى” الذى نُشر عام 2008، قال أستاذ القانون نيلس ميلزر إن الصهيونية كانت على الأرجح أول دولة فى العالم تعترف بسياسة القتل المستهدف وذلك فى عام 2000.
تتميز الحجج التى تستخدمها الجهات الرسمية فى الولايات المتحدة بالغموض وإختلاف المرجعيات التى تحيل اليها. فالنائب العام إريك هولدر الذى كان من المفترض فى خطابه بتاريخ 5 مارس 2012 أمام الجامعة الشمالية الشرقية للقانون أن يوضح علناً الحجج القانونية التى تستند اليها الحرب على الإرهاب، زاد الأمر غموضاً بنسبة أعلى من كل القادة السياسيين الأمريكيين ومستشاريهم القانونيين، فالجميع باختصار يزعم أن الولايات المتحدة فى حالة حرب مع عدو لا ينبغى الإستهانة به: «لأن الولايات المتحدة منخرطة فى نزاع مسلح، فإن بإمكاننا التحرك ضد الأعداء فى إطار القانون الدولى». . . « والقانون الدولى يعترف بالحق الجوهرى فى الدفاع عن النفس على المستوى القومى»
وهنا يبدو التناقض جلياً: هل الولايات المتحدة فى حالة حرب أم أنها فى حالة الدفاع عن النفس؟ فهذا التمييز هام للغاية: ففى الحالة الأولى، يطبق القانون الخاص بالصراعات المسلحة بينما ينبغى الإحالة فى الحالة الثانية الى قواعد قانون الدفاع عن النفس «الذى يعنى عملية إنفاذ القانون»، فحسب فيليب ألستون، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعنى بالإعدامات خارج القضاء: «يتعلق الأمر بنظامين من القواعد مختلفين جذريا»
أوضح ستيفن أفترغود، فى تحليله للمذكرة207 التى وجهها قسم الأبحات بمجلس الشيوخ الأمريكى الى أعضاء المجلس، والمتعلقة بقانونية عمليات القتل المستهدف للإرهابيين المزعومين، أن «ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية لعمليات القتل المستهدف تطرح إشكالية قانونية معقدة، لأنها تندرج فى العديد من المجالات القانونية التى تتداخل وتتراكب فيما بينها، فإذا كانت الولايات المتحدة فى حرب مع الأشخاص المستهدفين فإنها تجد في «قانون النزاعات المسلحة» الإطار القانونى المناسب، الا أن البعد عن ساحة الوغى يسمح بالطعن فى هذا الطرح، وخارج نزاع مسلح يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتصرف بموجب قوانين ذات صلة والمستقلة فى نفس الآن والمتعلقة بـ»الدفاع الشرعى عن النفس» إستعمال القوة المميتة فى عمليات إنفاذ القانون تقترح وسيلة أخرى لتصور وتقييم الضربات المناهضة للإرهاب»
وتُطْرَحُ مسألة إستعمال القوة المميتة بشكل مختلف حسب المرجعية، الا إن المسئولين الأمريكيين يمتنعون عن التصريح بشكل واضح عن الأسس القانونية لممارستهم عمليات القتل المستهدف، ففي الحالة الأولى، يتم تقعيد الصلاحيات المخولة للجندى فى ميدان المعركة وفى الثانية سلطات الشرطى الذى يقوم بدوريته: «فالأول يستطيع دون خشية من العقاب أن «يطلق النار من أجل القتل» على كل هدف عسكرى مشروع بينما يمنع على الثانى أن يطلق النار الا عند الضرورة القصوى وللرد فقط بشكل متناسب على تهديد واقع لا محالة» وعليه فإنه يلزم كل عملية لإنفاذ القانون أن تحترم القانون الدولى لحقوق الانسان.
ورغم أن الولايات المتحدة ليست متورطة فى «نزاع مسلح» مع اليمن فيبدو أنها توهم نفسها زيفاً أن تدخلها فى هذا البلد نوعاً من «النزاع المسلح» بسبب وجود أفراد محتملين من القاعدة تصفهم «بالمقاتلين» والذين قد يشكلون تهديداً للأمن القومى للولايات المتحدة، فقد صرح جون برينن فى مؤتمر بمركز وودروو ويلسن بعد سؤاله عن الإغتيالات المستهدفة التى ينفذها الأمريكيون عبر العالم قائلاً: «فى هذا النزاع المسلح، يشكل الأفراد الذين ينتمون الى القاعدة أو الى قوى شريكة أهدافاً عسكرية مشروعة، ونحن نملك السلطة التى تخولنا إستهدافهم بقوة قاتلة كما إستهدفنا قادة أعداء خلال صراعات سابقة مثل القادة الألمان أو اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية» وهو قياس ستقشعر له حتماً جلود العديد من المعلقين. . .
واليمن بلد حليف لم تعلن الولايات المتحدة الحرب عليه، فإذا كانت هناك حرب قائمة، فإنها تشن عليه من طرف فاعل غير تابع رسمياً لدولة معنية وبالتالى فالأمر يتعلق «بنزاع مسلح غير دولى» يطبق عبره القانون الدولى الإنسانى. لكن فى الحالة الملموسة للتدخل العسكرى الأمريكى فيما هو فى الحقيقة صراع داخلى باليمن، ينبغى التساؤل هل هذا التعريف مناسب نظراً لكون بعض المقدمات الضرورية غير متوفرة مثل حدة العنف المواجه؟! فالمجموعات المسلحة والقاعدة وأنصار الشريعة ومجموعات أخرى تحارب مؤسسات الدولة اليمنية وقواتها الأمنية وبنياتها التحتية والمواطنون الأمريكيون ومصالح أمريكا لم يستهدفوا منذ سنوات عديدة، ولذا لا يمكن أن يتعلق الأمر بمواجهة حادة بين القوات العسكرية الأمريكية والمتمردين اليمنيين، وكما فصلنا من قبل، تمت أعنف مواجهة عسكرية بين الجيش اليمنى ومتمردى القاعدة وأنصار الشريعة ومجموعات أخرى فيما بين عامى2011و2012 وتم إخلاء المناطق التى كانت تسيطر عليها هذه الأخيرة منذ يونيو 2012، بحيث أصبحت خاضعة للجان الشعبية التى شكلتها ودعمتها الدولة. لكن الولايات المتحدة ظلت رغم ذلك تتحرك من 2009 إلى 2012 ولا زالت تنفذ إغتيالاتها المستهدفة. لذا أصبح من الصعب تحمل كونها تنخرط بنفسها كل هذه المدة فى نزاع مسلح مع القاعدة أو أنصار الشريعة فى اليمن.
فرغم أن هذا التدخل ليس فى الواقع نزاعاً مسلحاً، الا أنه نوع من «إنفاذ القانون» خارج المناطق العدائية النشطة مما يفرض عدم اللجوء الى القوة المميتة الا في حالة التهديد المباشر والحتمى، حيث يفرض القانون الدولى لحقوق الإنسان نفسه، فخلال أية عملية أمنية تهدف الى تطبيق القانون يتعلق الأمر بالقبض على الشخص المشتبه به وتمكينه من تسليم نفسه وليس قتله فى غياب أى تهديد من طرفه لحياة العناصر التى تزاول مهامها، غير أن إستخدام القوة المسلحة الذى لا يمكن أن يكون الا استثناءً سارياً فى اليمن وبشكل غير متناسب من طرف الولايات المتحدة، وبما أن هذه الشروط غير متوفرة نظراً لعدم التزام الطائرة بدون طيار بها بما أنها لا يمكن أن تنذر الضحايا قبل قتلهم فالأمر يتعلق إذن بإعدام خارج القضاء وتكون الطائرة بدون طيار أفضل أداة لتطبيق مبدأ «القتل بدل الاعتقال»
كما ينبغى التذكير بأن العديد من العمليات من تنفيذ السئ أى إيه التى ليس عملاؤها سوى مدنيين، وبما أن التدخل الأمريكى فى اليمن ينتمى الى صنف النزاع المسلح فإنهم يقعون تحت طائلة المتابعة باقتراف جرائم حرب.
على إفتراض أن الأمر يتعلق فعلاً بنزاع مسلح تنخرط فيه المؤسسات الأمريكية ويقع تحت طائلة القانون الدولى الإنسانى، فإن هذه الأخيرة ملزمة بإحترام عدد من المبادئ وأولها الضرورة العسكرية ومناسبة الوسائل المستخدمة والإنسانية والتمييز بين المقاتلين والمدنيين، لكن كل هذه القواعد يتم إنتهاكها بشكل ممنهج ولا بد من التذكير بأن أول هجمة لطائرة أمريكية بدون طيار وقعت سنة 2002 تلتها غارات أخرى إبتداءً من 2009 بينما لم يكن هناك فى ذلك التاريخ صراع داخلى بين دولة اليمن والقاعدة، وجاءت هذه الغارات ردا على عملية البارجة الحربية يو إس كول سنة 2000، وكانت الغارة الأكثر دموية هى تلك التى إستهدفت المعجلة فى 17 ديسمبر 2009 حيث سقط أكثر من 50 مدنياً، ومن المؤكد أنه لم تكن فى هذه الحالة أية ضرورة للتدخل عسكرياً إذ كان من السهل القبض على الشخص المطلوب، كما أن الوسائل المستعملة لم تكن مناسبة البتة إذ تم إطلاق صواريخ تحمل قنابل إنشطارية من بارجة حربية ولا زالت هذه القنابل تقتل المدنيين بعد مرور عدة سنوات على الغارة.
لكن الأمر لا يتعلق هنا حالات عديدة لإغتيالات إستهدفت أشخاصاً كان يمكن اعتقالهم بسهولة، وكانت الآليات خاصة الدراجات النارية التى تقل المشتبه بهم فى متناول الجيش اليمنى الذى كان يستطيع بكل سهولة إيقافها وإعتقال ركابها.
بتأريخ 7 نوفمبر 2012، تم إغتيال عدنان القاضى وأحد مرافقيه بواسطة قذيفة أطلقتها طائرة بدون طيار بقرية السرن قرب سنحان، على بعد أقل من 40 كلم من العاصمة صنعاء، وكان القاضى باعتباره مقدماً سابقاً فى الجيش يقبض مرتبه كمتقاعد الى حين إغتياله مما يعنى أن السلطات كانت تعتبر وضعه قانونياً لا غبار عليه، كما كان متهماً بالتورط فى العملية التى إستهدفت السفارة الأمريكية سنة 2008 وتمت إدانته وحكم عليه بأربع سنوات سجناً قبل أن يطلق سراحه بفعل ضغوط من مسئولين عسكريين وقبليين، وكان يعيش بحرية فى مسقط رأسه حيث كان يمكن إعتقاله فى أية لحظة، ويزعم بعض المسئولين اليمنيين أن هذه الضربة أذن بها شخصياً الرئيس هادى مبرراً ذلك بأن أية محاولة للقبض على القاضى كانت ستسقط ضحايا عديدين، لكن السؤال يظل قائماً: لماذا تتم محاولة إغتياله إذا كان نفس المسئولين يؤكدون عدم توجيه أية تهمة اليه وأنه لا يشكل أى تهديد للولايات المتحدة213 ؟
إضافة الى ما سبق، هناك مبدأ آخر يتم إنتهاكه بشكل ممنهج هو مبدأ «التمييز» فنيلز ميلزر يفسر فى دراسة نشرها الصليب الأحمر الدولى الإنسانى صعوبة وضع مفاهيم قانونية فعالة بالنظر للقانون الدولى الإنسانى تمكن من التمييز بين مختلف الأطراف المنخرطة أو غير المنخرطة فى نزاع مسلح غير دولى: «إستنادا الى مبدأ التمييز فى الصراعات المسلحة غير الدولية، فإن كل الأشخاص الذين ليسوا أفرادا فى القوات المسلحة لدولة ما أو لمجموعات مسلحة منظمة تابعة لطرف فى صراع معين هم أشخاص مدنيون لهم إذن الحق فى الحماية من الهجمات المباشرة الا إذا شاركوا مباشرة فى الإعتداءات وخلال مدة هذه المشاركة .
فى القانون الدولى الإنسانى، إن المدنى، أى من ليس عضواً فى القوات المسلحة أو الميليشيات المسلحة التابعة للدولة، لا يمكن أن يكون هدفاً مشروعاً الا إذا كان مشاركاً بطريقة مباشرة فى العمليات العدائية وطوال فترة مشاركته فقط، لكن معظم الضربات لم تنفذ خلال إندلاع أفعال عدائية بين المجموعات المسلحة والولايات المتحدة.
وفى كل نزاع مسلح، لابد من بذل كل الجهود للحفاظ على المدنيين، لكن العديد من الضربات تمت فى أحياء أو ضد آليات تسير داخل بلدات يرتفع فيها إحتمال إصابة مدنيين خاصة الأطفال، كما وقع فى الشحر (حضرموت) يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 2012 عندما سقط 4 رجال قتلى فى غارة شنت عليهم، فقد كانوا موجودين قرب ملعب كان فيه العديد من الأطفال الذين أصيب الكثير منهم بحالات هلع شديدة مثل حمزة حسين سعيد بن دحمان ذى 12 سنة والذى أصبح معاقاً بفعل الهجوم.
وبتأريخ 10 يونيو 2011، إستهدفت ضربة منزل نادر الشدادى الذى يقدم باعتباره قائداً محلياً لأنصار الشريعة فى قرية الراية (محافظة أبين) بينما كان غائباً فقتل أبوه وأمه وأخته5 بينما أصيبت إبنة أخته بإعاقة دائمة وقتلت أيضاً فتاة عمرها 11 سنة، هى مطيعة أحمد حيدرة، بينما كانت تغادر منزل الشدادي.
وقد ذكرنا هجوم 2 سبتمبر 2012 برداع الذى كان من المفترض أن يستهدف عبد الرؤوف الذهب لكنه أصاب آلية وأردى قتلى 12 شخصاً لم تكن لهم أية علاقة بالمجموعات المسلحة بل كانوا عائدين من سوق رداع الى قريتهم.
وخلال الهجوم على رداع، نفذت غارات نسبت الى الجيش اليمنى بينما كانت فى الواقع من فعل طائرات بدون طيار أمريكية وأوقعت العديد من القتلى الذين لم يتم التعرف عليهم ولم تثبت فى حقهم الأفعال المنسوبة اليهم والذين قدموا مع ذلك على أنهم إرهابيون ومقاتلون لأنصار الشريعة أو القاعدة، كذلك الشأن بالنسبة لما وقع يوم 14 تموز/يوليو 2011 في مودية بمحافظة أبين، فحسب موظفين محليين إتصلت بهم وكالة الأنباء الفرنسية، كانت الغارة من تنفيذ الأمريكان لأن الطائرات اليمنية غير مجهزة للقيام بالقصف ليلاً، كما علمت السي. إن. إن من مصدر رسمى أن أكثر من 50 شخصاً قتل وأوضح نفس الموظفين أن عدد الضحايا كان بهذا الحجم لكون المقاتلين كانوا يعيشون مع أسرهم فى الأماكن التى تم قصفها 216.
لكن الإدارة الأمريكية لا تقدم مع ذلك تعريفاً واضحا للأشخاص الذين تعتبر أن عليها إستهدافهم وتترك الغموض سائداً: فهل يتعلق الأمر بتصفية أشخاص محددين ومعروفين ثبت قيامهم بأفعال إرهابية أو مقاتلين؟ فمختلف المصالح الأمريكية و قيادة العمليات الخاصة المشتركة الأمريكية والسي آي إيه تستند الى لوائح القتل التى من المفترض الا تتضمن الا قادة المنظمات المصنفة ضمن التنظيمات الإرهابية وتزعم أنها لا تستهدف سوى أشخاصاً محددين، لكنها فى الواقع حسب إعتراف بعض المسئولين الأمريكيين أنفسهم، لا تعرف من قتل منهم وفى معظم الحالات التى رأينا من قبل، لا يتعلق الأمر بقادة فى القاعدة، فالأشخاص الذين يسقطون خلال الضربات الجوية تنطمس غالباً معالمهم مما يجعل التعرف عليهم مستحيلاً، فكيف يمكن للإدارة الأمريكية فى هذه الحالة التأكيد علنا على أنها قضت على قادة فى القاعدة رغم تبين كذب نبأ وفاة أحدهم عدة مرات؟
من جهة أخرى، نعلم أن المصالح الأمريكية تقوم بالضربات الموقعة مما يطرح إشكالا على مستوى مبدأ التمييز. فالأمريكان يستهدفون أفراداً ذوى سلوك يثير الشبهة أو لأنهم يوجدون فى مكان مشبوه «قرب مخزن للأسلحة أو حاجز لمجموعة مسلحة مثلا»، دون التأكد من أنهم فعلا مقاتلون، وبالإضافة لاى كونها إعدامات خارج القضاء، فإن هذه الممارسة تخل تماما بإحصاء المدنيين أو المقاتلين المغتالين، فعندما يكون قائد مجموعة مسلحة محددة داخل آلية معينة رفقة أربعة رجال، كيف يمكن معرفة هل هم أيضا مقاتلون؟ ومع ذلك، يتم إعتبارهم مشبوهين وإحصاؤهم ضمن المقاتلين، ففى الهجوم على خولان فى 23 يناير/كانون الثانى 2013 قصفت سيارة تقل 8 ركاب بصاروخين من صنف هيلفاير أطلقتهما طائرة بدون طيار وكانت الغارة تستهدف بصفة خاصة ربيع حمود لاهب الذى كان مطلوباً للسلطات اليمنية وكان يقدم على أنه عضو فى القاعدة، ومن بين المصابين كان هناك مدنيان لا علاقة لهما بالمجموعات المسلحة وكانا يقودان السيارة بعد أن طلب منهما لاهب وأصحابه نقلهم الى قرية مجاورة وتم التعرف على لاهب وعلى سعد باعتبارهما الشخصان المستهدفان بهذه الغارة.
ورغم أن الإدارة الأمريكية تحاول أن تقلل علانية من عدد المدنيين المقتولين فقد قرأنا كيف تم إعتبار كل رجل بلغ سن حمل السلاح مقاتلاً و كل الرجال الذين لم يتم تصنيفهم ضمن المدنيين هم أيضاً مقاتلون وكذا كل الرجال الذين يوجدون في دائرة الغارة، ويتسائل الأستاذ دابو أكاندى الذى يدير في جامعة أكسوفرد معهد الأخلاق والقانون والصراعات المسلحة قائلاً: «إذا كانت السياسة الأمريكية تعتبر كل الذين يعيشون مع المحاربين أو يساعدونهم هم بالضرورة أيضاً محاربون فهذه النظرية ستكون مشكلة إذا تم تطبيقها على المحاربين الأمريكيين أنفسهم أو على عملائهم»
ويطرح مشكل التمييز أثناء الغارات على المنازل السكنية وكذا خلال «الغارات المزدوجة» فبعد القصف، تقوم الساكنة المدنية بإسعاف الناجين، لكن يحدث أن تتم غارة ثانية بعد بضعة دقائق، ففى حالة هجوم 15 أيار/مايو 2012 بجعار، سقط العدد الأكبر من القتلى بفعل الغارة الثانية التى تلت الأولى بعد بضعة دقائق لا بفعل تلك التى إستهدفت الأشخاص المطلوبين، أى أن الغارة الثانية كانت تستهدف تصفية الجرحى وكذا إرهاب الساكنة لمنعها من إسعاف الناجين، وخلال الإغتيال المصوب الذى تم فى وصاب يوم 17 نيسان/أبريل 2013، لم يتمكن أحد من إغاثة أحد الناجين لأن إحدى الطائرات كانت تحلق فوق الحشد الذى كان يحاول إسعافه، فقد حكى أحد الشهود للكرامة ما يلى: «رأينا السيارة تشتعل وسمعت غازى، أحد الركاب، يصيح. نزلت على الدراجة لإسعافه بعد أن قذف بضعة أمتار بعيداً، لكن ما إن إقتربت حتى هبطت الطائرة على إرتفاع منخفض وأطلقت إشارات ضوئية حمراء على الأرض، كما لو أنها تشير الى موقع لإطلاق قنبلة، كان الأشخاص أمامى يصيحون: «الطائرة تنزل الهرب يا سليم» غادرت المكان والتحقت بالحشد أمامى، كان الناس متجمدين من الذعر لرؤيتهم الطائرة التى كانت تحلق فوقهم على إرتفاع منخفض، لازلت أتذكر صيحات غازى وهو يتوسل الينا لكننا كنا عاجزين عن إسعافه، وإنتظرنا ثلاث ساعات أن تختفى الطائرة قبل أن نتمكن من إسعاف غازي» عبثا، فقد لقى حتفه.
تدعى كذباً الولايات المتحدة أن الحرب التى تشنها على القاعدة والمجموعات التى تصفها بالارهابية ضرورة للدفاع عن النفس، وتحيل لذلك الى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التى تؤكد على الحق الطبيعى فى الدفاع عن النفس جماعياً أو فردياً فى حالة حدوث عدوان مسلح، ويعبر المقرر الخاص السابق المعنى بالإعدامات خارج القضاء، فيليب الستون، عن تحفظاته القوية حول الإحالة الى الميثاق «لكن حتى إذا تبين أن المادة 51 لم تعوض القانون العرفى، فلن توجد فى الواقع سوى حالات نادرة جداً يكون فيها فاعل غير دولى لا تلزم أنشطته أية دولة، قادراً على القيام بهجوم مسلح يمكن أن يمنح الحق فى إستخدام قوة خارجية»
ويتجلى أحد شروط اللجوء الى الحق فى الدفاع عن النفس فى كون خطر الهجوم المسلح مباشراً وحتمياً، لكن لا يوجد فى اليمن أى تهديد “مباشر” و”حتمى” للولايات المتحدة من طرف مجموعات مسلحة فى حالة صراع مع السلطة المركزية يبرر تدخلها العسكرى، فبعد أكثر من عشر سنوات على إعتداءات 11 سبتمبر، مازال إستدلال الإدارة الأمريكية يتأسس على المبدأ القائل بأن كل عمل إرهابى يمكن نسبته من قريب أو بعيد الى شبكة القاعدة ينتمى الى حملة العنف التى إنطلقت فى ذلك التاريخ .
وبالتالى فإن هذا العنف يشكل موضوع عدوان مسلح كما تحدده المادة 51 من الميثاق. وأمام هذه الوضعية التهديدية التى تعتبر دائمة، تسمح الولايات المتحدة لنفسها بالحق الدائم فى الدفاع عن النفس مما يسمح لها أيضاً بعدم تحديد موقع التهديد ومنح نفسها الحق فى الهجوم المسلح على أى مكان فى العالم، لكن لا يمكن لهذا المنطق أن يبرر بسهولة ممارسة الإغتيالات المستهدفة عبر الطائرات بدون طيار التى لا تشكل كما تدل على ذلك العديد من حالات الهجوم التى ذكرت، رد فعل على إعتداء مباشر وحتمى، وعلاوة على ذلك، وكما أكده الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية، فإن إستخدام الدفاع عن النفس لا يمكن الإحتجاج به ضد الفاعل من غير الدول.
إن تصور الدفاع عن النفس يعرف توسيعاً آخر جديراً بالإنتقاد يقوم على كون الدول التى تتدخل فيها الولايات المتحدة لا تريد أو لا تستطيع محاربة الإرهاب، مما يضطرها، أى الولايات المتحدة، الى التحرك مباشرة، لكن هذا المبرر يطرح مشكلاً سياسياً وقانونياً: هل يشكل التدخل الأمريكى فوق التراب اليمنى إنتهاكاً لسيادة الدولة؟ إننا لا ندرى هل تم إبرام إتفاقات عسكرية ثنائية بين الدولتين، وفى هذه الحالة، ما هى بنود هذه الإتفاقات؟ لكن يبدو من خلال بعض التسريبات أو الأقوال المنقولة على لسان بعض الشخصيات السياسية أن هناك تعاوناً وثيقاً ينمو بين البلدين، لكن هل يبلغ هذا التعاون الى حدود تنظيمهما معاً عمليات قصف جنوب البلاد؟ وهل تسمح هذه الإتفاقات إذا كانت بينهما بالإغتيالات المستهدفة؟ فكما يشير فيليب الستون «لكن بينما يمكن اللجوء الى إستعمال القوة إذا قبل الطرفان، لا يعفى ذلك أياً من الدولتين المعنيتين من القيام بالتزاماتهما طبقا للقانون الدولى الخاص بحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى باستخدام القوة المميتة ضد شخص معين»
وفى غياب الإتفاقيات العسكرية الثنائية، ما هى المعايير التى تمكن من القول بأن اليمن لا يملك الإرادة أو القدرة على محاربة الإرهاب فى بلده؟ اليست منظمة الأمم المتحدة هى المخولة بالحسم فى مثل هذه القضايا ذات العواقب الخطيرة بالنسبة للساكنات المدنية؟
مهما كان السياق الذى يجري فيه التدخل العسكرى الأمريكى (وضع النزاع المسلح أو الدفاع عن النفس) فإن الجيش الأمريكى والسى أى أيه يستخدمان طائرات بدون طيار وطائرات عسكرية أخرى أو بارجات حربية من أجل إقتراف إغتيالات مصوبة يجب إعتبارها وتوصيفها كإعدامات خارج القضاء، بالنظر للقانون الدولى المتعلق بحقوق الإنسان يتم إنتهاك العديد من الحقوق بفعل هذه الإعدامات خاصة؛ أولها المتعلق بالحق فى الحياة، فالعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ينص بوضوح فى مادته 6 على أنه «لا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا» كما تدعو الملاحظة العامة 6 للجنة حقوق الإنسان جميع الدول الى التقنين والحد من الحالات التى يمكن فيها حرمان شخص معين من الحياة من طرف السلطات وتؤكد هذه الملاحظة العامة على أن الحق فى الحياة لا يمكن تأويله بشكل مفرط فى التحديد، موضحة أن «على الدول واجباً أسمى يتمثل فى منع الحروب، وأعمال القتل وأعمال العنف الجماعى الأخرى التى تسبب خسائر فى الأرواح بصورة تعسفية»
وفى حالة المدنيين الذين يتم قتلهم خلال التدخلات الأمريكية يبدو إنتهاك الحق فى الحياة بكل وضوح ولا يمكن لأى سياق أن يبرر إعدامهم خارج القضاء، فقد قمنا بتوثيق حوالى عشرة من الهجمات التى سقط فيها مدنيون أو أصيبوا بجروح بليغة وتم التعرف على معظمهم بالإسم بحيث لم يعد هناك شك فى وضعهم كمدنيين.
كما لا يمكن تبرير الإغتيال المصوب للمشتبه بهم، سواء إعتبروا قادة فى القاعدة أو مجرد مقاتلين بالظروف (وضع النزاع المسلح أو الدفاع عن النفس) المحيطة بالهجوم، فالولايات المتحدة لم تكن خاضعة لأى «تهديد حتمى»، كونه يعتبر شرطاً يتيح الحق فى الدفاع عن النفس والأفراد الذين أغتيلوا لم يكونوا متورطين فى أية أعمال عدوانية ضدها، بحيث كان الجنود خلالها مضطرين للدفاع عن أنفسهم والإغتيالات المستهدفة لم تتم خلال هجوم مباشر وحتمى للمجموعات المسلحة، علماً أن المشتبه بهم كانوا مطاردين من طرف طائرات بدون طيار إستهدفتهم ثم إغتالتهم، وفى حالات أخرى، سقط مدنيون بينما كانوا رفقة أشخاص آخرين مشتبه بهم خضعوا هم أيضاً للمراقبة قبل إستهدافهم، وفى جميع الحالات لا يمكن القبول بالتبرير الذى قدم لوفاتهم الناجمة عن إعدامات خارج القضاء.
كما أن هناك حقاً أساسياً آخر يؤكد عليه العهد ويتم إنتهاكه خلال الإعدام خارج القضاء هو الحق فى الدفاع والخضوع لمحاكمة عادلة كما تنص على ذلك المادة 14 فكل المشبوهين المغتالين لم يواجهوا بالتهم الموجهة اليهم والتى ظلت غير معروفة لحد الآن ولم يتم الإستماع إلى قضيتهم خلال محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة، وعلى افتراض أن السلطات اليمنية قامت بتجميع تهم ضد بعض المشبوهين المقتولين، فقد كان لزاماً عليها أن تلقى القبض عليهم لتقديمهم أمام عدالة بلدانهم، أما الأمريكان فلم يشرعوا فى أية مسطرة قضائية ضد الأشخاص المستهدفين سواء تعلق الأمر بمواطنين يمنيين أو أمريكيين، ويظل المثال الأبرز في هذا السياق هو أنور العولقي الذي كان منذ 2010 مدرجاً فى إحدى قوائم القتل لديهم وكذا المواطنين الأربعة الآخرين الذين قتلوا فى غارات للطائرات بدون طيار.

وأخيرا، فإن الفقه فى تطبيق الإلتزامات المنصوص عليها فى العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية خارج الحدود الإقليمية يتطلب من الولايات المتحدة إحترام القانون الدولى لحقوق الإنسان، وهذا يشمل طبعاً أية عملية فى اليمن224.
عندما أعلنت وسائل الإعلام فى شهر نيسان/أبريل 2010 أن أنور العولقى المواطن اليمنى الأمريكى كان ضمن لآئحة الأشخاص المستهدفين من طرف الـ C.I.A)) لجأ أبوه ناصر العولقى، الى المحكمة الفدرالية لدائرة كولومبيا لأن إغتيال مواطن أمريكى دون أية مسطرة قضائية يشكل إنتهاكاً للدستور الأمريكى، لكن الشكاية رفضت بعد أن أكد القاضى أن والده لا يملك الأهلية للتحدث باسم إبنه وأنه لا يملك السلطة القانونية لمنع قرار سياسى إتخذته السلطة التنفيذية فى إطار نزاع مسلح »رغم أنه إعترف بأن القضية تثير أسئلة دستورية خطيرة»
وبعد عدة محاولات إغتيال فاشلة، تم أخيراً قتل أنور العولقى بوساطة طائرة بدون طيار يوم 30 سبتمبر/أيلول 2011، وهنأ الرئيس أوباما نفسه علناً بهذا الإغتيال، وكشفت صحيفة نيويورك تايمز بعيد وفاته أن وزارة العدل كانت قد قامت فى أغسطس/ آب 2010 بتحرير مذكرة تبرر حق الإدارة فى قتله رغم أنه لم يدن رسمياً بأية جريمة، وقد كان يوم مقتله رفقة ثلاثة رجال آخرين ضمنهم سمير خان، مدير نشرة، ذو جنسية أمريكية أيضاً، وبعد أسبوعين قتلت قذائف لطائرة بدون طيار إبن أنور، عبد الرحمن العولقى، المواطن الأمريكى ذو الستة عشرة سنة.
وينبغى التذكير هنا بأن حكومة الولايات المتحدة لم تعرف بالإغتيال المصوب لأربعة مواطنين أمريكيين فى اليمن وباكستان الا فى أيار/مايو 2013، رغم كونهم فى الواقع خمسة، لكن لحد الساعة تم تصنيف مذكرة وزارة العدل التى بررت قانونياً إعدام أنور العولقى كـ «سر دفاعى» ومع ذلك، ذكرت بعض التسريبات أن هناك سببين رئيسيين قد يكونا خلف القرار: أن العولقى قد يكون شارك فى أعمال إرهابية ومؤامرة تهدف الى تفجير طائرة سنة 2009، وهو ما يستجيب لشرط « التهديد الحتمى» كما أنه قد يكون أيد القاعدة فى صراعها المسلح ضد الولايات المتحدة وأنه أخيراً كان يستحيل تقريباً إعتقاله وتقديمه للعدالة.
وقد قدم مركز الحقوق الدستورية CCR والإتحاد الأمريكى للحريات المدنية بتاريخ 18 تموز/يوليو 2012 شكاية باسم العولقى، والد أنور وجد عبد الرحمن، وسارة خان، أم سمير خان، ضد كاتب الدولة فى الدفاع ليون بانيتا ومدير الـ (C.I.A) دفيد بيتروس والأميرال وليم ماك رافنز، قائد العمليات الخاصة للولايات المتحدة والجنرال جوزيف فوتل، قائد العمليات الخاصة بين الجيوش، متهمين لهم بخرق الدستور والحق الأساسى فى الحياة الذى ينص عليه القانون الدولى وذلك بسماحهم وأمرهم وتنفيذهم لغارات الطائرات بدون طيار التى قتلت الثلاثة المذكورين.
وبتأريخ 18 تموز/يوليو 2013، إحتجت بشدة القاضية الإتحادية لولاية كولومبيا، روزمارى كولير، على تأكيد إدارة أوباما أن المحاكم ليست مخولة لمحاكمة الإغتيالات المستهدفة التى تنفذها طائرات بدون طيار ضد مواطنين أمريكيين فى الخارج، وكانت الحكومة قد طلبت رفض الشكاية إنطلاقاً من كون القرارات الخاصة بالإغتيالات المستهدفة يجب أن تكون محصورة فى الفروع «السياسية» للحكومة والسلطة القضائية كما أن مثل هذه الإجراءات القضائية فى حق مسئولين سامين للأمن القومى قد تكون سابقة تؤسس لما بعدها، وعبرت القاضية عن دهشتها أمام «تأكيد الحكومة أن بإمكانها قتل مواطنين أمريكيين تم إعتبارهم خطرين»، دون تدخل من المحاكم لتفحص هذا القرار، وبما أن جلسة أخرى كانت قد حددت، فقد بقيت القضية عالقة فى آب /أغسطس 2013 ويبقى أن الإحتمال وارد بأن يسحب الملف من يد السيدة كولير.