بقلم /مصطفى نصار.
حلال علينا حصرًا :الحرية صنم يؤكل منه وقتما يريدون .
في كتابه معنى الحرية و العقل ، يسرد المفكر الشهير نعوم تشومسكي قصة أغرب من العجب في السياسة الأمريكية ، ليعبر بها عن مبدأ الحرية ذاته . و القصة ببساطة كالتالي الولايات المتحدة اعتبرت اختراع اوبنهايمر للقنبلة الذرية بطولة تستحق المكافأة عليها ، على الرغم من إحساسه العميق بالعار الذي لاحقه كقاتل لأكثر من ٣٠٠ ألف شخص في يومين في دليل صارخ على القمع و تقديس المصلحة الفارغ من المعنى و المضمون و العدالة ، لتشهد بذلك بناء حرية من مذاق مختلف لها نكهات عديدة على أفرادها و نكبات على آخرين .
و لتخيل أبسط للمشهد ، أمامك عائلة بسيطة مكونة من ١٠ أفراد ، و تزوج الابن من امرأة شمطاء ميزت بين أولادها بحسب معايير سفهية و تافهة كاللون و الجنس الخاص بالشخص و اللهجة التي يتحدث بها الفرد ، ماذا ستسميها ؟!. بالتأكيد ، سيتأخذ هذا منك رد فعل كبيرة منك أقلها قول بأنها أم ظالمة متحيزة مميزة لا تعدل بين أبنائها ، أي أنها تفسد عقول و نفسيات الأولاد و تقسم بينهم أبواب الفرقة و الطغنية .
و على هذا المثال السابق ، تطبق تلك الحرية لتأخذ عدة أنماط تتمحور كافتها حول نمط واحد ، و هو الحرية السياسي فقط لأهلها في الحضارة الغربية ، التي قتلت شعوبًا و أفرادَا فقط لعدم تأثر حريتهم قيد أنملة ، مناقضين بذلك عهدي ماركوس أورليوليس الذي قال ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة ، ليجعلوها لتعيش النحلة دون باقي السرب . أي كما قال الصحفي الاستقصائي جون بلغر أن الحرية مقتصرة على من يمتلك القوة حصرًا.
هذا بالنسبة للحرية في السياق الخارجي الدولي ، ولا تختلف الحرية الداخلية عن الخارجية إلا نذرًا يسيرًا ، تنعكس في حصر الحرية على عدة معايير كلها مادية استهلاكية ، كالمواد الإباحية و العري و ممارسة الجنس المفتوح و الإسلاموفوبيا ، لتعكس الحرية الغربية مثالًا حقيقًا على حرية ظالمة و ظلم حر ينامي في عزل و إقصاء حجج الآخرين فضلًا عن الآخر نفسه و السخرية منه و من مقدساته . لا تؤطر الحرية في الغرب بنفسها إلا و تنهار أمام الحرية الحقيقة ، لإنها مطلقة متناقضة مع الحرية الحقيقة ، أو بتعبير الدكتور الطيب بوعزة إطلاق الحرية في كل شيء يتناقض مع نفسه من الأصل . و تمثل افتتاح الأولمبياد في فرنسا يعكس ذلك بصدق و شفافية قلما رأيناها .
مرحبا بك في مدينة أول إبادة جماعية:عن قيم الحرية الفرنسية.
في أكتوبر ٢٠٢٠ ،خرج الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون ليخطب و يقول بمنتهى الشعوبية و الخسة أن الإسلام يعاني من أزمة و يجب على فرنسا مساعدته ، و لن ينهي معاناة ماكرون بالإسلام و حرصه المزعوم عليه إلا و يدعم الرسوم المسئية لأشرف الخلق محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم بذريعة أنها حرية مهما “تراجع الآخرون” ، و قبل أن نرى حرية فرنسا ، علينا أن نتواضع لنرى صورة أخرى من هذا التنوع و الاحترام للتعدد الذي رسم صورة حقيقة و قمة في الواقعية لفرنسا الأنوار .
بدأ حفل افتتاح الأولمبياد بتمثيل لجثة الملكة الشهيرة ماري أنطوانييت و هي مقطوعة الرأس و حاملة رأسها ذات الشعر البرتقاني المصفف على هيئة ضفائر ، ليخرج كما لو أن يشتعل ، و تقول عبارات نارية حافلة بالترجي و التوسل لها من السجن . و للمفارقة ، وضعوا المشهد في قصر l’cassinage الأثري التي سجنت فيه حقًا . و لكنها لم تكن السبب الوحيد في الانهيار الذي أدى للثورة الفرنسية، و حتى عبارة روسو المتعمدة للإساءة لها في كتابه الشهير الاعترافات كتبت قبل توليها الملك في عام ١٧٦٥ م مما يخلف على القيم الفرنسية وبالَا من النقد و التشنيع اللاذع بسبب الحساسية التاريخية و النهاية البشعة لآخر ملكات فرنسا.
و يتشابه الأمر حينما نتدارك لمدينة فاندايه الفرنسية، حيث رفضوا عبادة العقل بالمعنى الحرفي للكلمة ،فأذاقهم الثوار مذاق معفم من الإبادة الجماعية بطعم الإخاء و الحرية . إخاء قتل ربع مليون إنسان في شهر فقط ليعلق المؤرخ صاحب كتاب الإبادة الجماعية في فاندايه “تملق الثوار الفرنسيين للقيم سقط صريعًا أمام فاندايه “، و أضاف المؤلف ريموند سالاير أن الثورة الفرنسية عار و خزي على التاريخ. لما وضعته من نهاية حكم الفرد و الكينسية و بداية حكم المال و العقل غير المحدود بروابط ،ليدور العالم في دائرة مفرغة طيلة ٣قرون ليعود أسوء من ذي قبل في تعبير عن اللاتقدم و الالتزام فقط بالتقدم المادي الذي ينزل الإنسان منزلة الدواب .
و بالعودة للاولمبياد ، طالت السخرية حتى سيدنا عيسى عليه بتقليد عرض مبتذل أرعن يقدمه شواذ جنسيًا و منحرفين ليقولوا أن المسيح،و العياذ بالله ، كان مثلهم منحرفًا منتكس الفطرة ينقصه التمييز ، حتى و لو جاء من لوحة رمزية كالعشاء الأخير فتلك بحد ذاتها كارثة مدوية لما تعلنه بمنتهى السفول و الوقاحة من تفكك روابط الإنسان عن خالقه و أسرته ، لتضطر اللجنة المنظمة للخروج و الاعتذار بعد ضغط قادة دين و سياسة و غضب عارم بين أفراد الشعب نفسه حتى لو كان ملحدًا مثل الفيلسوف الفرنسي ميشيل اونفراي .
و عطفًا على ما سبق ، يجب السؤال عن الاعتذار لأمة تباد و يشارك قاتلها بحرية و إباء بها ، و عن الرسومات التي أبرزت تناقض مدينة الإبادة الجماعية و القذارة و لن تجد لنفسها غسولًا جيدًا لتنظيف فلجأت للعطور و مساحيق التجميل ، كالعاهرة التي تسمي نفسها جميلة لعملها فقط بالعهر و الجنس و لإسكات صوت ما تبقى من ضميرها إن كان حيًا نابضًا ، ليس ميتًا قفز عليه طبقات من السفول و الدماء لتحقيق تقدم متخلفًا و تخلفًا منمقًا .
بين الحرية و اللبيرالية: تناقض سافر ينم عن الأصل المنظم و المحدد .
في كتابه الموسعي الإسلام بين الشرق و الغرب ، يخبرنا الرئيس البوسني الراحل على عزت ييجوفتيش أن الحرية دليل على وجود الخالق ، لإنها ببساطة إن انفصلت عنه أضحت حيوانية فجة غير مؤطرة هادمة بذاتها . و بالتالي ستصبح القوانين مجرد مزحة ثقيلة حينذاك لما ستفعله أحجاف البشر بيعضها من قتل و سفك للدماء و إيذاء مكتمل الأركان كما يؤكد عالم الإجرام أندور ماش في كتابه المعنون بنهاية الإلحاد الذي وضع فيه بصراحة و سلسلة أسس نفي القوانين.
ولا يعني هذا إغفال فوائد الحرية التي تقدم للمجتمعات دفعة نفسية إيجابية للتنافس و الترقي و التقدم الروحي و المادي ،فهي خاطر عزيز كما يقول الإمام ابن عاشور رحمه الله في مقاصد الشريعة الإسلامية.
فالسير في فضاءات الحرية يسهم في التحرر من أرقاق عديدة ترهق النفس إرهاقًا و تعبًا من ثقل المادي و تكوير الاقتصادي و السياسي دون الأصل المنجي لمستنقع ليس له نهاية إلا السقوط المدوي قبل التهشيم التام عند الوصول للقاع ، و الالتزام للأطر التي أكدها كثير مفازة عظيمة تغني عن قيم مستوردة دمرت قارات بأكملها ، بإعادة تشكيل العقل الحديث كما صرخ الفيلسوف الانجليزي كرين بينتون .